سورة لقمان - تفسير تفسير الشوكاني

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (لقمان)


        


قوله: {الم * تِلْكَ ءايات الكتاب} قد تقدم الكلام على أمثال فاتحة هذه السورة ومحلها من الإعراب مستوفى فلا نعيده، وبيان مرجع الإشارة أيضاً، و{الحكيم} إما أن يكون بمعنى مفعل، أو بمعنى فاعل، أو بمعنى ذي الحكمة أو الحكيم قائله، و{هُدًى وَرَحْمَةً} منصوبان على الحال على قراءة الجمهور. قال الزجاج: المعنى: تلك آيات الكتاب في حال الهداية والرحمة، وقرأ حمزة: {ورحمة} بالرفع على أنهما خبر مبتدأ محذوف، أي هو هدى ورحمة، ويجوز أن يكونا خبر تلك. والمحسن: العامل للحسنات، أو من يعبد الله كأنه يراه كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح لما سأله جبريل عن الإحسان: فقال: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك»، ثم بين عمل المحسنين فقال: {الذين يُقِيمُونَ الصلاة وَيُؤْتُونَ الزكواة وَهُم بالآخرة هُمْ يُوقِنُونَ} والموصول في محل جر على الوصف للمحسنين، أو في محل رفع، أو نصب على المدح أو القطع، وخص هذه العبادات الثلاث؛ لأنها عمدة العبادات {أولئك على هُدًى مّن رَّبّهِمْ وأولئك هُمُ المفلحون} قد تقدم تفسير هذا في أوائل سورة البقرة، والمعنى هنا: أن أولئك المتصفين بالإحسان وفعل تلك الطاعات التي هي أمهات العبادات هم على طريقة الهدى، وهم الفائزون بمطالبهم الظافرون بخيري الدارين.
{وَمِنَ الناس مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحديث}: محل {ومن الناس} الرفع على الابتداء كما تقدم بيانه في سورة البقرة، وخبره {من يشتري لهو الحديث}، و{من} إما موصولة أو موصوفة، و{لهو الحديث}: كل ما يلهي عن الخير من الغناء والملاهي والأحاديث المكذوبة وكل ما هو منكر، والإضافة بيانية. وقيل: المراد: شراء القينات المغنيات والمغنين، فيكون التقدير: ومن يشتري أهل لهو الحديث. قال الحسن: لهو الحديث: المعازف والغناء.
وروي عنه أنه قال: هو الكفر والشرك. قال القرطبي: إن أولى ما قيل في هذا الباب هو: تفسير لهو الحديث بالغناء، قال: وهو قول الصحابة والتابعين، واللام في {لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ الله} للتعليل. قرأ الجمهور بضم الياء من {ليضل} أي ليضل غيره عن طريق الهدى ومنهج الحق، وإذا أضل غيره فقد ضل في نفسه. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن محيصن وحميد، وورش وابن أبي إسحاق بفتح الياء. أي ليضل هو في نفسه. قال الزجاج: من قرأ بضم الياء، فمعناه: ليضل غيره، فإذا أضل غيره فقد ضل هو، ومن قرأ بفتح الياء فمعناه: ليصير أمره إلى الضلال، وهو وإن لم يكن يشتري للضلالة، فإنه يصير أمره إلى ذلك، فأفاد هذا التعليل أنه إنما يستحق الذم من اشترى لهو الحديث لهذا المقصد، ويؤيد هذا سبب نزول الآية وسيأتي.
قال الطبري: قد أجمع علماء الأمصار على كراهة الغناء والمنع منه، وإنما فارق الجماعة إبراهيم بن سعد وعبد الله العنبري. قال القاضي أبو بكر بن العربي: يجوز للرجل أن يسمع غناء جاريته إذ ليس شيء منها عليه حرام لا من ظاهرها ولا من باطنها، فكيف يمنع من التلذذ بصوتها؟ قلت: قد جمعت رسالة مشتملة على أقوال أهل العلم في الغناء وما استدل به المحللون له والمحرمون له، وحققت هذا المقام بما لا يحتاج من نظر فيها وتدبر معانيها إلى النظر في غيرها، وسميتها: (إبطال دعوى الإجماع، على تحريم مطلق السماع) فمن أحب تحقيق المقام كما ينبغي فليرجع إليها.
ومحل قوله: {بغير علم} النصب على الحال، أي حال كونه غير عالم بحال ما يشتريه، أو بحال ما ينفع من التجارة، وما يضر، فلهذا استبدل بالخير ما هو شر محض {وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً} قرأ الجمهور برفع: {يتخذها} عطفاً على {يشتري} فهو من جملة الصلة. وقيل: الرفع على الاستئناف والضمير المنصوب في {يتخذها} يعود إلى الآيات المتقدم ذكرها، والأول أولى. وقرأ حمزة والكسائي والأعمش: {ويتخذها} بالنصب عطفاً على {يضل}، والضمير المنصوب راجع إلى السبيل، فتكون على هذه القراءة من جملة التعليل للتحريم، والمعنى: أنه يشتري لهو الحديث للإضلال عن سبيل الله واتخاذ السبيل هزواً، أي مهزوءاً به، والسبيل يذكر ويؤنث، والإشارة بقوله: {أولئك لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} إلى من، والجمع باعتبار معناها، كما أن الإفراد في الفعلين باعتبار لفظها، والعذاب المهين: هو الشديد الذي يصير به من وقع عليه مهيناً.
{وَإِذَا تتلى عَلَيْهِ ءاياتنا} أي وإذا تتلى آيات القرآن على هذا المستهزئ {ولى مُسْتَكْبِراً} أي أعرض عنها حال كونه مبالغاً في التكبر، وجملة: {كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا} في محل نصب على الحال، أي كأن ذلك المعرض المستكبر لم يسمعها مع أنه قد سمعها، ولكن أشبهت حاله حال من لم يسمع، وجملة: {كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً} حال ثانية، أو بدل من التي قبلها، أو حال من ضمير يسمعها، ويجوز أن تكون مستأنفة. والوقر: الثقل، وقد تقدم بيانه، وفيه مبالغة في إعراض ذلك المعرض {فَبَشّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} أي أخبره بأن له العذاب البليغ في الألم، ثم لما بيّن سبحانه حال من يعرض عن الآيات بيّن حال من يقبل عليها، فقال: {إِنَّ الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} أي آمنوا بالله وبآياته ولم يعرضوا عنها بل قبلوها وعملوا بها {لَهُمْ جنات النعيم} أي: نعيم الجنات فعكسه للمبالغة، جعل لهم جنات النعيم كما جعل للفريق الأول العذاب المهين، وانتصاب {خالدين فِيهَا} على الحال. وقرأ زيد بن علي: {خالدون فيها} على أنه خبر ثان لأن {وَعْدَ الله حَقّا} هما مصدران الأول مؤكد لنفسه، أي وعد الله وعداً.
والثاني مؤكد لغيره، وهو مضمون الجملة الأولى وتقديره: حق ذلك حقاً. والمعنى: أن وعده كائن لا محالة ولا خلف فيه {وَهُوَ العزيز} الذي لا يغلبه غالب {الحكيم} في كل أفعاله وأقواله.
ثم بيّن سبحانه عزته وحكمته بقوله: {خلِقَ السموات بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} العمد: جمع عماد، وقد تقدم الكلام فيه في سورة الرعد. و{ترونها} في محل جرّ صفة ل {عمد} فيمكن أن تكون ثمّ عمد، ولكن لا ترى. ويجوز أن تكون في موضع نصب على الحال، أي ولا عمد ألبتة. قال النحاس: وسمعت علي بن سليمان يقول: الأولى أن يكون مستأنفاً، أي ولا عمد ثم {وألقى فِي الأرض رَوَاسِيَ} أي جبالاً ثوابت {أَن تَمِيدَ بِكُمْ} في محل نصب على العلة، أي كراهة أن تميد بكم. والكوفيون يقدّرونه: لئلا تميد، والمعنى: أنها خلقها وجعلها مستقرّة ثابتة لا تتحرّك بجبال جعلها عليها وأرساها على ظهرها {وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلّ دَابَّةٍ} أي من كلّ نوع من أنواع الدوابّ، وقد تقدّم بيان معنى البثّ {وَأَنزَلْنَا مِنَ السماء مَاء فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} أي أنزلنا من السماء مطراً فأنبتنا فيها بسبب إنزاله من كلّ زوج، أي من كل صنف، ووصفه بكونه كريماً؛ لحسن لونه وكثرة منافعه. وقيل: إن المراد بذلك: الناس، فالكريم منهم من يصير إلى الجنة، واللئيم من يصير إلى النار. قاله الشعبي، وغيره، والأوّل أولى. والإشارة بقوله: {هذا} إلى ما ذكر في خلق السموات والأرض، وهو مبتدأ وخبره {خَلْقُ الله} أي مخلوقه {فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الذين مِن دُونِهِ} من آلهتكم التي تعبدونها، والاستفهام للتقريع والتوبيخ، والمعنى: فأروني أيّ شيء خلقوا مما يحاكي خلق الله أو يقاربه، وهذا الأمر لهم لقصد التعجيز والتبكيت. ثم أضرب عن تبكيتهم بما ذكر إلى الحكم عليهم بالضلال الظاهر فقال: {بَلِ الظالمون فِي ضلال} فقرّر ظلمهم أوّلاً وضلالهم ثانياً، ووصف ضلالهم بالوضوح والظهور، ومن كان هكذا فلا يعقل الحجة ولا يهتدي إلى الحق.
وقد أخرج البيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله: {وَمِنَ الناس مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحديث} يعني: باطل الحديث. وهو النضر بن الحارث بن علقمة اشترى أحاديث الأعاجم وصنيعهم في دهرهم. وكان يكتب الكتب من الحيرة إلى الشام ويكذب بالقرآن.
وأخرج الفريابي وابن جرير وابن مردويه عنه في الآية قال: باطل الحديث وهو: الغناء ونحوه {لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ الله} قال: قراءة القرآن وذكر الله، نزلت في رجل من قريش اشترى جارية مغنية.
وأخرج البخاري في الأدب المفرد، وابن أبي الدنيا وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه، والبيهقي في السنن عنه أيضاً في الآية قال: هو الغناء وأشباهه.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عنه أيضاً في الآية قال: الجواري الضاريات.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي الدنيا وابن جرير وابن المنذر، والحاكم وصححه، والبيهقي في الشعب عن أبي الصهباء قال: سألت عبد الله بن مسعود عن قوله: {وَمِنَ الناس مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحديث} قال: هو والله الغناء. ولفظ ابن جرير: هو الغناء، والله الذي لا إله إلاّ هو، يردّدها ثلاث مرات.
وأخرج سعيد ابن منصور وأحمد والترمذي وابن ماجه وابن أبي الدنيا وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه والبيهقي عن أبي أمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تبيعوا القينات ولا تشتروهنّ، ولا خير في تجارة فيهنّ وثمنهنّ حرام» في مثل هذا أنزلت هذه الآية {وَمِنَ الناس مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحديث} الآية، وفي إسناده عبيد بن زحر عن عليّ بن زيد عن القاسم بن عبد الرحمن وفيهم ضعف.
وأخرج ابن أبي الدنيا في ذم الملاهي، وابن مردويه عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله حرّم القينة وبيعها وثمنها وتعليمها والاستماع إليها»، ثم قرأ: {وَمِنَ الناس مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحديث}.
وأخرج ابن أبي الدنيا، والبيهقي في السنن عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الغناء ينبت النفاق كما ينبت الماء البقل» وروياه عنه موقوفاً.
وأخرج ابن أبي الدنيا وابن مردويه عن أبي أمامة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما رفع أحد صوته بغناء إلاّ بعث الله إليه شيطانين يجلسان على منكبيه يضربان بأعقابهما على صدره حتى يمسك» وفي الباب أحاديث في كل حديث منها مقال.
وأخرج البيهقي في الشعب عن ابن مسعود في قوله: {وَمِنَ الناس مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحديث} قال: الرجل يشتري جارية تغنيه ليلاً ونهاراً.
وأخرج ابن مردويه عن عبد الله بن عمر؛ أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في قوله: {وَمِنَ الناس مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحديث}: «إنما ذلك شراء الرجل اللعب والباطل».
وأخرج ابن أبي الدنيا، والبيهقي عن نافع قال: كنت أسير مع عبد الله بن عمر في طريق، فسمع زمارة فوضع أصبعيه في أذنيه، ثم عدل عن الطريق، فلم يزل يقول: يا نافع، أتسمع؟ قلت: لا، فأخرج أصبعيه من أذنيه. وقال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع.
وأخرج ابن أبي الدنيا عن عبد الرحمن بن عوف: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت عند نغمة لهو ومزامير شيطان، وصوت عند مصيبة خمش وجوه وشق جيوب ورنة شيطان».


اختلف في لقمان هل هو عجمي أم عربي؟ مشتق من اللقم، فمن قال: إنه عجمي، منعه للتعريف والعجمة، ومن قال: إنه عربي منعه للتعريف، ولزيادة الألف والنون.
واختلفوا أيضاً هو نبيّ أم رجل صالح؟ فذهب أكثر أهل العلم إلى أنه ليس بنبيّ.
وحكى الواحدي عن عكرمة والسدي والشعبي: أنه كان نبياً، والأوّل أرجح لما سيأتي في آخر البحث. وقيل: لم يقل بنبوّته إلا عكرمة فقط، مع أن الراوي لذلك عنه جابر الجعفي وهو ضعيف جدّاً. وهو لقمان بن باعورا بن ناحور بن تارخ، وهو آزر أبو إبراهيم، وقيل: هو لقمان بن عنقا بن مرون، وكان نوبياً من أهل أيلة ذكره السهيلي. قال وهب: هو ابن أخت أيوب.
وقال مقاتل: هو: ابن خالته، عاش ألف سنة وأخذ عنه العلم، وكان يفتي قبل مبعث داود، فلما بعث داود قطع الفتوى، فقيل له، فقال: ألا أكتفي إذ كفيت؟ قال الواقدي: كان قاضياً في بني إسرائيل، والحكمة التي آتاه الله هي: الفقه والعقل والإصابة في القول، وفسر الحكمة من قال: بنبوّته بالنبوّة {أَنِ اشكر لِي}: {أن} هي المفسرة؛ لأن في إيتاء الحكمة معنى القول. وقيل: التقدير قلنا له: أن اشكر لي.
وقال الزجاج: المعنى: ولقد آتينا لقمان الحكمة لأن أشكر لي. وقيل: بأن أشكر لي فشكر فكان حكيماً بشكره، والشكر لله الثناء عليه في مقابلة النعمة وطاعته فيما أمر به. ثم بين سبحانه: أن الشكر لا ينتفع به إلا الشاكر، فقال: {وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} لأن نفع ذلك راجع إليه وفائدته حاصلة له؛ إذ به تستبقى النعمة وبسببه يستجلب المزيد لها من الله سبحانه: {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ حَمِيدٌ} أي من جعل كفر النعم مكان شكرها، فإن الله غنيّ عن شكره غير محتاج إليه، حميد مستحق للحمد من خلقه؛ لإنعامه عليهم بنعمه التي لا يحاط بقدرها، ولا يحصر عددها، وإن لم يحمده أحد من خلقه، فإن كل موجود ناطق بحمده بلسان الحال. قال يحيى بن سلام: غنيّ عن خلقه حميد في فعله.
{وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ} قال السهيلي: اسم ابنه ثاران في قول ابن جرير والقتيبي.
وقال الكلبي: مشكم.
وقال النقاش: أنعم. وقيل: ماتان. قال القشيري: كان ابنه وامرأته كافرين فما زال يعظهما حتى أسلما، وهذه الجملة معطوفة على ما تقدّم، والتقدير: آتينا لقمان الحكمة حين جعلناه شاكراً في نفسه، وحين جعلناه واعظاً لغيره. قال الزجاج: {إذ} في موضع نصب ب {آتينا}. والمعنى: ولقد آتينا لقمان الحكمة إذ قال. قال النحاس: وأحسبه غلطاً لأن في الكلام واواً، وهي تمنع من ذلك، ومعنى {وَهُوَ يَعِظُهُ}: يخاطبه بالمواعظ التي ترغبه في التوحيد، وتصدّه عن الشرك {يابني لاَ تُشْرِكْ بالله} قرأ الجمهور بكسر الياء.
وقرأ ابن كثير بإسكانها. وقرأ حفص بفتحها، ونهيه عن الشرك يدلّ على أنه كان كافراً كما تقدّم، وجملة: {إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} تعليل لما قبلها، وبدأ في وعظه بنهيه عن الشرك لأنه أهمّ من غيره.
وقد اختلف في هذه الجملة، فقيل: هي من كلام لقمان. وقيل: هي من كلام الله، فتكون منقطعة عما قبلها، ويؤيد هذا ما ثبت في الحديث الصحيح أنها لما نزلت: {وَلَمْ يَلْبِسُواْ إيمانهم بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82] شق ذلك على الصحابة، وقالوا: أينا لم يظلم نفسه. فأنزل الله: {إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} فطابت أنفسهم.
{وَوَصَّيْنَا الإنسان بوالديه} هذه التوصية بالوالدين وما بعدها إلى قوله: {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} اعتراض بين كلام لقمان لقصد التأكيد لما فيها من النهي عن الشرك بالله، وتفسير التوصية هي قوله: {أَنِ اشكر لِي ولوالديك}، وما بينهما اعتراض بين المفسَّر والمفسِّر، وفي جعل الشكر لهما مقترناً بالشكر لله دلالة على أن حقهما من أعظم الحقوق على الولد، وأكبرها وأشدّها وجوباً، ومعنى: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً على وَهْنٍ} أنها حملته في بطنها وهي تزداد كل يوم ضعفاً على ضعف، وقيل: المعنى: إن المرأة ضعيفة الخلقة، ثم يضعفها الحمل. وانتصاب {وهناً} على المصدر.
وقال النحاس: على أنه مفعول ثان بإسقاط الحرف، أي حملته بضعف على ضعف، وقال الزجاج: المعنى: لزمها بحملها إياه أن تضعف، مرّة بعد مرة. وقيل: انتصابه على الحال من أمه، و{على وهن} صفة ل {وهناً} أي: وهناً كائناً على وهن. قرأ الجمهور بسكون الهاء في الموضعين. وقرأ عيسى الثقفي وهي رواية عن أبي عمرو بفتحهما وهما لغتان. قال قعنب:
هل للعواذل من ناه فيزجرها *** إن العواذل فيها الأين والوهن
{وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} الفصال: الفطام، وهو أن يفصل الولد عن الأم، وهو مبتدأ وخبره الظرف. وقرأ الجحدري، وقتادة وأبو رجاء، والحسن ويعقوب: {وفصله} وهما لغتان، يقال: انفصل عن كذا، أي تميز، وبه سمي الفصيل.
وقد قدّمنا أن أمة في قوله: {أَنِ اشكر لِي ولوالديك} هي المفسرة.
وقال الزجاج: هي مصدرية. والمعنى: بأن اشكر لي. قال النحاس: وأجود منه أن تكون {أن} مفسرة، وجملة: {إِلَيَّ المصير} تعليل لوجوب امتثال الأمر، أي الرجوع إليّ لا إلى غيري.
{وَإِن جاهداك على أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} أي ما لا علم لك بشركته {فَلاَ تُطِعْهُمَا} في ذلك.
وقد قدّمنا تفسير الآية، وسبب نزولها في سورة العنكبوت، وانتصاب {مَّعْرُوفاً} على أنه صفة لمصدر محذوف، أي وصاحبهما صحاباً معروفاً.
وقيل: هو منصوب بنزع الخافض، والتقدير: بمعروف {واتبع سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} أي اتبع سبيل من رجع إليّ من عبادي الصالحين بالتوبة والإخلاص {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ} جميعاً لا إلى غيري {فَأُنَبِئُكُم} أي أخبركم عند رجوعكم {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} من خير وشرّ فأجازي كلّ عامل بعمله.
وقد قيل: إن هذا السياق من قوله: {ووصينا الإنسان} إلى هنا من كلام لقمان فلا يكون اعتراضاً وفيه بعد.
ثم شرع سبحانه في حكاية بقية كلام لقمان في وعظه لابنه فقال: {يابنى إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مّنْ خَرْدَلٍ} الضمير في {إنها} عائد إلى الخطيئة، لما روي: أن ابن لقمان قال لأبيه: يا أبت إن عملت الخطيئة حيث لا يراني أحد هل يعلمها الله؟ فقال: إنها، أي الخطيئة، والجملة الشرطية مفسرة للضمير، أي إن الخطيئة إن تك مثقال حبة من خردل. قال الزجاج: التقدير: إن التي سألتني عنها إن تك مثقال حبة من خردل، وعبر بالخردلة؛ لأنها أصغر الحبوب، ولا يدرك بالحسّ ثقلها ولا ترجح ميزاناً. وقيل: إن الضمير في: {إنها} راجع إلى الخصلة من الإساءة والإحسان، أي إن الخصلة من الإساءة والإحسان إن تك مثقال حبة إلخ، ثم زاد في بيان خفاء الحبة مع خفتها فقال: {فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ} فإن كونها في الصخرة قد صارت في أخفى مكان وأحرزه {أَوْ فِي السموات أَوْ فِي الأرض} أي أو حيث كانت من بقاع السماوات، أو من بقاع الأرض {يَأْتِ بِهَا الله} أي يحضرها، ويحاسب فاعلها عليها {إِنَّ الله لَطِيفٌ} لا تخفى عليه خافية، بل يصل علمه إلى كل خفيّ {خَبِيرٌ} بكل شيء لا يغيب عنه شيء. قرأ الجمهور: {إن تك} بالفوقية على معنى إن تك الخطيئة أو المسألة، أو الخصلة أو القصة. وقرءوا: {مثقال} بالنصب على أنه خبر كان، واسمها هو أحد تلك المقدرات. وقرأ نافع برفع: {مثقال} على أنه اسم كان وهي تامة. وأنث الفعل في هذه القراءة لإضافة مثقال إلى المؤنث. وقرأ الجمهور: {فتكن} بضم الكاف. وقرأ الجحدري بكسرها وتشديد النون. من الكنّ الذي هو الشيء المغطى. قال السدّي: هذه الصخرة هي صخرة ليست في الساماوات، ولا في الأرض.
ثم حكى سبحانه عن لقمان: أنه أمر ابنه بإقامة الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر على المصيبة. ووجه تخصيص هذه الطاعات أنها أمهات العبادات وعماد الخير كله، والإشارة بقوله: {إِنَّ ذلك} إلى الطاعات المذكورة، وخبر {إن} قوله: {مِنْ عَزْمِ الأمور} أي مما جعله الله عزيمة وأوجبه على عباده. وقيل: المعنى: من حق الأمور التي أمر الله بها. والعزم يجوز أن يكون بمعنى: المعزوم، أي من معزومات الأمور أو بمعنى العازم كقوله: {فَإِذَا عَزَمَ الأمر} [محمد: 21] قال المبرد: إن العين تبدل حاء. فيقال: عزم وحزم. قال ابن جرير: ويحتمل أن يريد أن ذلك من مكارم أهل الأخلاق، وعزائم أهل الحزم السالكين طريق النجاة، وصوّب هذا القرطبي. {وَلاَ تُصَعّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} قرأ الجمهور: {تصعّر}، وقرأ ابن كثير وابن عامر وعاصم: {تصاعر} والمعنى متقارب. والصعر: الميل، يقال: صعر خدّه وصاعر خدّه: إذا أمال وجهه، وأعرض تكبراً. والمعنى: لا تعرض عن الناس تكبراً عليهم، ومنه قول الشاعر:
وكنا إذا الجبار صعر خدّه *** مشينا إليه بالسيوف نعاتبه
ورواه ابن جرير هكذا:
وكنا إذا الجبار صعر خدّه *** أقمنا له من ميله فتقوّما
قال الهروي: {وَلاَ تُصَعّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} أي لا تعرض عنهم تكبراً، يقال: أصاب البعير صعر: إذا أصابه داء يلوي عنقه. وقيل: المعنى: ولا تلو شدقك إذا ذكر الرجل عندك كأنك تحتقره.
وقال ابن خويز منداد: كأنه نهى أن يذلّ الإنسان نفسه من غير حاجة، ولعله فهم من التصعير التذلل {وَلاَ تَمْشِ فِي الأرض مَرَحًا} أي: خيلاء وفرحاً، والمعنى: النهي عن التكبر والتجبر، والمختال يمرح في مشيه، وهو مصدر في موضع الحال، وقد تقدّم تحقيقه، وجملة: {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} تعليل للنهي لأن الاختيال هو المرح، والفخور هو الذي يفتخر على الناس بما له من المال أو الشرف أو القوّة أو غير ذلك، وليس منه التحدّث بنعم الله، فإن الله يقول: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبّكَ فَحَدّثْ} [الضحى: 11].
{واقصد فِي مَشْيِكَ} أي توسط فيه، والقصد ما بين الإسراع والبطء، يقال: قصد فلان في مشيته: إذا مشى مستوياً لا يدبّ دبيب المتماوتين، ولا يثب وثوب الشياطين.
وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا مشى أسرع، فلا بدّ أن يحمل القصد هنا على ما جاوز الحدّ في السرعة.
وقال مقاتل: معناه: لا تختل في مشيتك.
وقال عطاء: امش بالوقار، والسكينة. كقوله: {يَمْشُونَ على الأرض هَوْناً} [الفرقان: 63] {واغضض مِن صَوْتِكَ} أي انقص منه، واخفضه ولا تتكلف رفعه، فإن الجهر بأكثر من الحاجة يؤذي السامع، وجملة {إِنَّ أَنكَرَ الأصوات لَصَوْتُ الحمير} تعليل للأمر بالغضّ من الصوت، أي أوحشها، وأقبحها. قال قتادة: أقبح الأصوات صوت الحمير؛ أوّله زفير وآخره شهيق. قال المبرد: تأويله: إن الجهر بالصوت ليس بمحمود، وإنه داخل في باب الصوت المنكر. واللام في {لصوت} للتأكيد، ووحد الصوت مع كونه مضافاً إلى الجمع لأنه مصدر، وهو يدلّ على الكثرة، وهو مصدر صات يصوت صوتاً فهو صائت.
وقد أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتدرون ما كان لقمان؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: كان حبشياً»
وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد في الزهد، وابن أبي الدنيا في كتاب المملوكين، وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كان لقمان عبداً حبشياً نجاراً.
وأخرج الطبراني، وابن حبان في الضعفاء، وابن عساكر عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اتخذوا السودان فإن ثلاثة منهم سادات أهل الجنة: لقمان الحكيم، والنجاشي، وبلال المؤذن» قال الطبراني: أراد الحبشة.
وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً في قوله: {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا لُقْمَانَ الحكمة} يعني: العقل والفهم والفطنة في غير نبوّة.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن عكرمة أنه كان نبياً، وقد قدّمنا أن الراوي عنه جابر الجعفي، وهو ضعيف جداً.
وأخرج أحمد والحكيم والترمذي، والحاكم في الكنى، والبيهقي في الشعب عن ابن عمر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إن لقمان الحكيم كان يقول: إن الله إذا استودع شيئاً حفظه» وقد ذكر جماعة من أهل الحديث روايات عن جماعة من الصحابة والتابعين تتضمن كلمات من مواعظ لقمان وحكمه، ولم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك شيء ولا ثبت إسناد صحيح إلى لقمان بشيء منها حتى نقبله.
وقد حكى الله سبحانه من مواعظه لابنه ما حكاه في هذا الموضع، وفيه كفاية وما عدا ذلك مما لم يصح فليس في ذكره إلا شغلة للحيز وقطيعة للوقت، ولم يكن نبياً حتى يكون ما نقل عنه من شرع من قبلنا، ولا صحّ إسناد ما روي عنه من الكلمات حتى يكون ذكر ذلك من تدوين كلمات الحكمة التي هي ضالة المؤمن.
وأخرج أبو يعلى والطبراني وابن مردويه وابن عساكر عن أبي عثمان النهدي: أن سعد بن أبي وقاص قال: أنزلت فيّ هذه الآية: {وَإِن جاهداك على أَن تُشْرِكَ بِي}، وقد تقدّم ذكر هذا.
وأخرج ابن جرير عن أبي هريرة قال: نزلت هذه الآية في سعد بن أبي وقاص.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: {وَهْناً على وَهْنٍ} قال: شدّة بعد شدّة، وخلقاً بعد خلق.
وأخرج الطبراني وابن عديّ وابن مردويه عن أبي أيوب الأنصاري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن قوله: {وَلاَ تُصَعّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ}، فقال: «ليّ الشدق».
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وَلاَ تُصَعّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} قال: لا تتكبر، فتحتقر عباد الله وتعرض عنهم إذا كلموك.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في الآية قال: هو الذي إذا سلم عليه لوى عنقه كالمستكبر.


لما فرغ سبحانه من قصة لقمان رجع إلى توبيخ المشركين وتبكيتهم وإقامة الحجج عليهم، فقال: {أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ الله سَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} قال الزجاج: معنى تسخيرها للآدميين: الانتفاع بها انتهى، فمن مخلوقات السموات المسخرة لبني آدم، أي التي ينتفعون بها الشمس والقمر والنجوم ونحو ذلك. ومن جملة ذلك: الملائكة فإنهم حفظة لبني آدم بأمر الله سبحانه، ومن مخلوقات الأرض المسخرة لبني آدم: الأحجار والتراب والزرع والشجر والثمر والحيوانات التي ينتفعون بها والعشب الذي يرعون فيه دوابهم، وغير ذلك مما لا يحصى كثرة، فالمراد بالتسخير جعل المسخر بحيث ينتفع به المسخر له، سواء كان منقاداً له، وداخلاً تحت تصرّفه أم لا {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهرة وَبَاطِنَةً} أي أتمّ وأكمل عليكم نعمه، يقال: سبغت النعمة إذا تمت وكملت. قرأ الجمهور: {أسبغ} بالسين، وقرأ ابن عباس ويحيى بن عمارة: {أصبغ} بالصاد مكان السين. والنعم جمع نعمة على قراءة نافع وأبي عمرو وحفص، وقرأ الباقون: {نعمة} بسكون العين على الإفراد والتنوين اسم جنس يراد به الجمع ويدلّ به على الكثرة، كقوله: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34] وهي قراءة ابن عباس. والمراد بالنعم الظاهرة: ما يدرك بالعقل أو الحسّ ويعرفه من يتعرفه، وبالباطنة: ما لا يدرك للناس، ويخفى عليهم. وقيل: الظاهرة: الصحة وكمال الخلق، والباطنة: المعرفة، والعقل. وقيل: الظاهرة ما يرى بالأبصار من المال والجاه والجمال، وفعل الطاعات، والباطنة: ما يجده المرء في نفسه من العلم بالله وحسن اليقين وما يدفعه الله عن البعد من الآفات. وقيل: الظاهرة نعم الدنيا، والباطنة: نعم الآخرة. وقيل: الظاهرة: الإسلام والجمال، والباطنة: ما ستره الله على العبد من الأعمال السيئة {وَمِنَ الناس مَن يجادل فِي الله} أي في شأن الله سبحانه في توحيده وصفاته؛ مكابرة وعناداً بعد ظهور الحق له وقيام الحجة عليه، ولهذا قال: {بِغَيْرِ عِلْمٍ} من عقل ولا نقل {وَلاَ هُدًى} يهتدي به إلى طريق الصواب {وَلاَ كتاب مُّنِيرٍ} أنزله الله سبحانه، بل مجرّد تعنت، ومحض عناد.
وقد تقدم تفسير هذه الآية في سورة البقرة.
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتبعوا مَا أَنزَلَ الله} أي إذا قيل لهؤلاء المجادلين. والجمع باعتبار معنى من، اتبعوا ما أنزل الله على رسوله من الكتاب تمسكوا بمجرد التقليد البحت. و{قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءَابَاءنَا} فنعبد ما كانوا يعبدونه من الأصنام، ونمشي في الطريق التي كانوا يمشون بها في دينهم، ثم قال على طريق الاستفهام للاستبعاد والتبكيت {أَوْ لَّوْ كَانَ الشيطان يَدْعُوهُمْ إلى عَذَابِ السعير} أي يدعو آباءهم الذين اقتدوا بهم في دينهم، أي يتبعونهم في الشرك، ولو كان الشيطان يدعوهم فيما هم عليه من الشرك، ويجوز أن يراد أنه يدعو هؤلاء الأتباع إلى عذاب السعير؛ لأنه زين لهم اتباع آبائهم والتدين بدينهم، ويجوز أن يراد أنه يدعو جميع التابعين والمتبوعين إلى العذاب، فدعاؤه للمتبوعين بتزيينه لهم الشرك، ودعاؤه للتابعين بتزيينه لهم دين آبائهم، وجواب لو محذوف، أي يدعوهم فيتبعونهم، ومحل الجملة النصب على الحال.
وما أقبح التقليد، وأكثر ضرره على صاحبه، وأوخم عاقبته، وأشأم عائدته على من وقع فيه. فإن الداعي له إلى ما أنزل الله على رسوله كمن يريد أن يذود الفراش عن لهب النار لئلا تحترق، فتأبى ذلك، وتتهافت في نار الحريق، وعذاب السعير.
{وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى الله} أي يفوّض إليه أمره، ويخلص له عبادته ويقبل عليه بكليته {وَهُوَ مُحْسِنٌ} في أعماله؛ لأن العبادة من غير إحسان لها ولا معرفة بما يحتاج إليه فيها، لا تقع بالموقع الذي تقع به عبادة المحسنين.
وقد صح عن الصادق المصدوق لما سأله جبريل عن الإحسان أنه قال له: «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» {فَقَدِ استمسك بالعروة الوثقى} أي اعتصم بالعهد الأوثق وتعلق به، وهو تمثيل لحال من أسلم وجهه إلى الله بحال من أراد أن يترقى إلى شاهق جبل، فتمسك بأوثق عرى حبل متدلّ منه {وإلى الله عاقبة الأمور} أي مصيرها إليه لا إلى غيره. وقرأ عليّ بن أبي طالب والسلمي وعبد الله بن مسلم بن يسار: {ومن يسلم} بالتشديد، قال النحاس: والتخفيف في هذا أعرف كما قال عزّ وجلّ: {فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِىَ للَّهِ} [آل عمران: 20] {وَمَن كَفَرَ فَلاَ يَحْزُنكَ كُفْرُهُ} أي لا تحزن لذلك، فإن كفره لا يضرك، بيّن سبحانه حال الكافرين بعد فراغه من بيان حال المؤمنين، ثم توعدهم بقوله: {إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ} أي نخبرهم بقبائح أعمالهم، ونجازيهم عليها {إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} أي بما تسرّه صدورهم لا تخفى عليه من ذلك خافية. فالسرّ عنده كالعلانية.
{نُمَتّعُهُمْ قَلِيلاً} أي نبقيهم في الدنيا مدة قليلة يتمتعون بها. فإن النعيم الزائل هو أقل قليل بالنسبة إلى النعيم الدائم. وانتصاب {قليلاً} على أنه صفة لمصدر محذوف، أي تمتيعاً قليلاً: {ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إلى عَذَابٍ غَلِيظٍ} أي نلجئهم إلى عذاب النار. فإنه لا أثقل منه على من وقع فيه وأصيب به، فلهذا استعير له الغلظ: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السموات والأرض لَيَقُولُنَّ الله} أي يعترفون بالله خالق ذلك لوضوح الأمر فيه عندهم. وهذا اعتراف منهم بما يدل على التوحيد وبطلان الشرك، ولهذا قال: {قُلِ الحمد لِلَّهِ} أي قل يا محمد: الحمد لله على اعترافكم، فكيف تعبدون غيره، وتجعلونه شريكاً له؟ أو المعنى: فقل: الحمد لله على ما هدانا له من دينه، ولا حمد لغيره، ثم أضرب عن ذلك فقال: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} أي لا ينظرون ولا يتدبرون حتى يعلموا أن خالق هذه الأشياء هو الذي تجب له العبادة دون غيره.
{للَّهِ مَا فِى السموات والأرض} ملكاً، وخلقاً فلا يستحق العبادة غيره {إِنَّ الله هُوَ الغني} عن غيره {الحميد} أي المستحق للحمد أو المحمود من عباده بلسان المقال أو بلسان الحال.
ثم لما ذكر سبحانه أن له ما في السماوات والأرض أتبعه بما يدلّ على أن له وراء ذلك ما لا يحيط به عدد، ولا يحصر بحدّ فقال: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الارض مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ} أي لو أن جميع ما في الأرض من الشجر أقلام. ووحد الشجرة لما تقرّر في علم المعاني: أن استغراق المفرد أشمل، فكأنه قال: كل شجرة شجرة حتى لا يبقى من جنس الشجر واحدة إلا وقد بريت أقلاماً، وجمع الأقلام لقصد التكثير، أي لو أن يعدّ كل شجرة من الشجر أقلاماً. قال أبو حيان: وهو من وقوع المفرد موقع الجمع والنكرة موقع المعرفة كقوله: {مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَةٍ} [البقرة: 106]، ثم قال سبحانه: {والبحر يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ} أي يمدّه من بعد نفاده سبعة أبحر. قرأ الجمهور: {والبحر} بالرفع على أنه مبتدأ، و{يمدّه} خبره، والجملة في محل الحال، أي والحال أن البحر المحيط مع سعته يمدّه السبعة الأبحر مدّاً لا ينقطع، كذا قال سيبويه.
وقال المبرد: إن البحر مرتفع بفعل مقدّر تقديره: ولو ثبت البحر حال كونه تمدّه من بعده سبعة أبحر. وقيل: هو مرتفع بالعطف على أن وما في حيزها. وقرأ أبو عمرو وابن أبي إسحاق: {والبحر} بالنصب عطفاً على اسم أن، أو بفعل مضمر يفسره {يمدّه}. وقرأ ابن هرمز والحسن: {يمدّه} بضم حرف المضارعة، وكسر الميم، من أمدّ. وقرأ جعفر بن محمد: {والبحر مداده} وجواب لو: {مَّا نَفِدَتْ كلمات الله} أي كلماته التي هي عبارة عن معلوماته. قال أبو عليّ الفارسي: المراد بالكلمات والله أعلم: ما في المقدور دون ما خرج منه إلى الوجود، ووافقه القفال فقال: المعنى: أن الأشجار لو كانت أقلاماً والبحار مداداً، فكتب بها عجائب صنع الله الدالة على قدرته ووحدانيته لم تنفد تلك العجائب. قال القشيري: ردّ القفال معنى الكلمات إلى المقدورات. وحمل الآية على الكلام القديم أولى. قال النحاس: قد تبين أن الكلمات هاهنا يراد بها العلم وحقائق الأشياء؛ لأنه جلّ وعلا علم قبل أن يخلق الخلق ما هو خالق في السماوات والأرض من شيء، وعلم ما فيه من مثاقيل الذرّ، وعلم الأجناس كلها، وما فيها من شعرة وعضو وما في الشجرة من ورقة، وما فيها من ضروب الخلق.
وقيل: إن قريشاً قالت: ما أكثر كلام محمد، فنزلت: قاله السديّ، وقيل: إنها لما نزلت: {وَمَا أُوتِيتُم مّن العلم إِلاَّ قَلِيلاً} [الإسراء: 85] في اليهود، قالوا: كيف، وقد أوتينا التوراة فيها كلام الله، وأحكامه، فنزلت. قال أبو عبيدة: المراد بالبحر هنا الماء العذب الذي ينبت الأقلام، وأما الماء المالح، فلا ينبت الأقلام. قلت: ما أسقط هذا الكلام، وأقلّ جدواه {أَنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} أي غالب لا يعجزه شيء، ولا يخرج عن حكمته وعلمه فرد من أفراد مخلوقاته. {مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحدة} أي إلا كخلق نفس واحدة، وبعثها. قال النحاس: كذا قدّره النحويون كخلق نفس مثل قوله: {واسئل القرية} [يوسف: 82]. قال الزجاج: أي قدرة الله على بعث الخلق كلهم، وعلى خلقهم كقدرته على خلق نفس واحدة، وبعث نفس واحدة {إِنَّ الله سَمِيعٌ} لكل ما يسمع {بَصِيرٌ} بكل ما يبصر.
وقد أخرج البيهقي في الشعب عن عطاء قال: سألت ابن عباس عن قوله: {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ} الآية، قال: هذه من كنوز علمي سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «أما الظاهرة: فما سوّى من خلقك، وأما الباطنة: فما ستر من عورتك، ولو أبداها لقلاك أهلك فمن سواهم».
وأخرج ابن مردويه، والبيهقي في الشعب، والديلمي وابن النجار عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله: {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهرة وَبَاطِنَةً} فقال: «أما الظاهرة: فالإسلام، وما سوّى من خلقك وما أسبغ عليك من رزقه، وأما الباطنة: فما ستر من مساوي عملك».
وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً قال: النعمة الظاهرة: الإسلام، والنعمة الباطنة: كل ما يستر عليكم من الذنوب والعيوب والحدود.
وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً: أنه قال في تفسير الآية هي: لا إله إلا الله.
وأخرج ابن أبي إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الارض} الآية؟ أن أحبار اليهود قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة: يا محمد، أرأيت قولك: {وَمَا أُوتِيتُم مّن العلم إِلاَّ قَلِيلاً} [الإسراء: 85] إيانا تريد أم قومك؟ فقال: «كُلا»، فقالوا: ألست تتلو فيما جاءك: أنا قد أوتينا التوراة وفيها تبيان كل شيء؟ فقال: «إنها في علم الله قليل»، وأنزل الله: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرض} الآية.
وأخرجه ابن مردويه عنه بأطول منه.
وأخرج ابن مردويه أيضاً عن ابن مسعود نحوه.

1 | 2